وائل أنور بندق
منذ عدة أيام نشرت منشوراً حول صدور حكم محكمة استئناف القاهرة ببطلان حكم التحكيم الصادر لصالح شركة الخرافي ضد ليبيا واعتبرت هذا الحكم نصراً للعدالة والحقيقة والمباديء الأخلاقية، بل واعتبرته نصراً لروح أستاذنا المرحوم الدكتور هشام صادق، ورغم أن القضية يعرفها المتخصصون جيداً ويعرفون تفاصيلها، إلا أنني وجدت أن الكثيرين غير متابعين لجميع فصولها، لا سيما غير المتخصصين، فرأيت أن أضع موجزاً محايداً تماماً وبسيطاً لسير القضية عبر السنوات الماضية دون أن أدخل في جدل التفاصيل والآراء.
وقبل أن أبدأ في السرد أود أن أقول أن هذه القضية من أهم القضايا التحكيمية في العصر الحديث، يكفي أن نعلم أنه قد عمل فيها أربعة من أكبر أساتذة القانون في العالم العربي، فقد كان دفاع الدولة الليبية برئاسة أستاذنا المرحوم الدكتور هشام صادق، وأستاذتنا الدكتورة حفيظة الحداد، وقد استكملت أستاذتنا الفاضلة النضال في القضية حتي استصدرت الحكم الأخير الصادر لصالح ليبيا، وأذكر أنها قد قالت لي منذ فترة طويلة أنه في حال صدور الحكم لصالح ليبيا ستذهب إلى قبر أستاذنا الدكتور هشام صادق لتحكي له ذلك في دلالة رمزية شديدة الوضوح على استكمالها لطريق الفقيه الراحل.
أما دفاع شركة الخرافي فقد كان فيه الأستاذين العالمين الجليلين، الدكتور فتحي والي والدكتور محمود سمير الشرقاوي، وهما من ذوي المقام الرفيع في مجال القانون والتحكيم، ورغم انحيازي العلمي لجانب الدولة الليبية، إلا أنهما يعلمان جيداً مدى محبتي وتقديري العميقين لشخصهما وعلمهما.
وبالمناسبة فقد كان الأستاذين الجليلين في الدفاع عن الخرافي في المراحل الأولى فقط ونجحا في كسب الجولة الأولى، بصدور حكم التحكيم، ثم تابع الدكتور فتحي والي قضية البطلان الأولى، ثم انقطعت صلتهما بالقضية فيما بعد.
بعد هذه المقدمة المطولة أسرد الموجز:
1- كانت البداية متمثلة في عقد استثمار سياحي مشترك بمنطقة تاجوراء التابعة لطرابلس، طبقا للقانون الليبي الخاص بتشجيع رؤوس الأموال الأجنبية ومؤرخ في 8/6/2006، طرفاه الدولة الليبية وشركة الخرافي الكويتية، التزمت بمقتضاه الدولة الليبية بتسليم أرض المشروع خالية من العوائق المادية والقانونية إلى شركة الخرافي، والتزمت الاخيرة تمويل إقامة المشروع وتشغيله-فندق خمس نجوم ومركز تجاري خدمي وشقق فندقية ومطاعم …إلخ، وتم الاتفاق على أن قيمته الاستثمارية 130 مليون دولار أمريكي، ومدة انجازه سبع سنوات ونصف سنة، وأن مدة امتياز شركة الخرافي تسعون سنة تبدأ من تاريخ استلام أرض المشروع.
2- تم الاتفاق على أنه في حال حدوث أي نزاع بشأن العقد فإنه يتم تسويته وديا، فإن تعذرت التسوية الودية يتم اللجوء إلى التحكيم وفقا لأحكام الاتفاقية الموحدة لاستثمار رؤوس الأموال العربية في الدول العربية الصادرة عام 1980.
3- حدث بعد ذلك نزاع بين الطرفين حيث ادعت شركة الخرافي أنها لم تتسلم أرض المشروع خالية من العوائق، كما ادعت الدولة الليبية بأن الشركة لم تنفذ التزاماتها لذلك تم الغاء الترخيص بالاستثمار لها.
4- لجأت شركة الخرافي إلى التحكيم الخاص ( الحر) وتشكلت هيئة التحكيم من كل من الأساتذة: إبراهيم فوزي محكما عن الخرافي، ومحمد الحافي محكما عن ليبيا، والدكتور عبد الحميد الأحدب رئيسا.
5- صدر حكم التحكيم بتاريخ 22/3/2013 بإلزام الدولة الليبية بأن تدفع إلى شركة الخرافي المبالغ الآتية: 30 مليون دولار تعويضا عن الأضرار الأدبية، 5 مليون دولار قيمة الخسائر والمصروفات المتكبدة، 900 مليون دولار تعويضا عن الكسب الفائت، مليون و940 ألف دولار رسوم ومصاريف التحكيم، أي بإجمالي تسعمائة وستة وثلاثين مليون وتسعمائة وأربعين ألف دولار أمريكي، إضافة إلى فائدته بمعدل 4% سنويا عن إجمالي المبالغ المحكوم بها، ورفض باقي الأقوال والطلبات الأخرى.
6- بعد صدور الحكم قامت مجلة التحكيم العالمية والتي يملكها ويرأس تحريرها الدكتور عبد الحميد الأحدب ( رئيس هيئة التحكيم) بنشر حكم التحكيم الذي يشتمل على مئات الصفحات، كما نشر عددا كبيرا من تعليقات الأساتذة الكبار المؤيدين للحكم كنوع من أنواع الحشد الدعائي الإيجابي لصالح الحكم أو محاولة تلميعه.
7- لما كان حكم التحكيم قد صدر وفقا لأحكام الاتفاقية الموحدة لاستثمار رؤوس الأموال العربية، ولما كانت هذه الاتفاقية تحظر الطعن بأي طريق في أحكام التحكيم الصادرة وفقا لها، فقد ثار الجدل حول ما إذا كان من الجائز رفع دعوى بطلان للحكم أم لا؟ والجدل هنا محوره : هل دعوى البطلان من طرق الطعن المحطورة في الاتفاقية، أم أنها ليست طريقا من طرق الطعن ومن ثم يجوز رفعها؟.
8- تجاهلت شركة الخرافي مسار دعوى البطلان وقامت بالحجز على أموال بعض المؤسسات التابعة للحكومة الليبية في عدة دول أجنبية، أولها وأبرزها فرنسا.
9- قامت الدولة الليبية برفع دعوى بطلان لحكم التحكيم أمام محكمة استئناف القاهرة، فقضت بتاريخ 5/2/2014 بعدم قبول دعوى البطلان استنادا إلى أن الاتفاقية حظرت جميع أنواع الطعن.
10- قامت الحكومة الليبية بالطعن بالنقض على حكم الاستئناف وقضت محكمة النقض بتاريخ 14/11/2015 بإلغاء حكم الاستئناف، وأحالت دعوى البطلان إلى محكمة الاستئناف مرة أخرى للفصل فيها، واستندت محكمة النقض في ذلك إلى أن دعوى البطلان ليست من طرق الطعن التي أشارت إليها الاتفاقية، ومن ثم فليس من المحظور رفعها.
11- أصرت محكمة الاستئناف ( دائرة أخرى بتشكيل مغاير للأولى) على رأيها بتاريخ 6/8/2018 وقضت بعدم اختصاصها دوليا بنظر دعوى البطلان، في تحد سافر لموقف المحكمة الأعلى وهي محكمة النقض.
12- طعن بالنقض للمرة الثانية في حكم الاستئناف وأصدرت محكمة النقض حكمها بتاريخ 10/12/2019 وجاءت عبارات الحكم قاطعة باترة تحمل غضب محكمة النقض على مسلك محكمة الاستئناف بل القاريء للحكم يلمح تقريعا من محكمة النقض لمحكمة الاستئناف وإلزاما لها بنظر دعوى البطلان.
13- بتاريخ 3/6/2020 صدر الحكم الأخير لمحكمة استئناف القاهرة ببطلان حكم التحكيم الصادر لصالح شركة الخرافي، وهو حكم تاريخي هام جدا.
14- المنتظر وفقا للمسار المستقبلي من المتوقع أن تقوم شركة الخرافي بالطعن بالنقض، فإذا قامت محكمة النقض بتأييد حكم الاستئناف – وهو ما نأمله- ستكون كلمة محكمة النقض هي نقطة الختام في هذه القضية في مصر، لكن ستتوجه الجهود الليبية فيما بعد ذلك إلى معالجة مشكلة الحجوزات التي تمت على الأموال الليبية في الدول الأوروبية.
وإنا لمنتظرون
وإن شاء الله ستنتصر العدالة في النهاية رغم كل شيء
وائل أنور بندق